ليس من باب الترصّد، أو التقليل من أقدار الرجال؛ القول بأنني لم أجد فيما تفضّل به الدكتور عائض القرني من «اعترافات» في برنامج «الليوان» على قناة «الخليجية»، أي جديد يستوجب الحفاوة، أو أمرا يدعو للتفاؤل أو يبعث على الأمل، فكل ما ورد في تلك الحلقة من اعترافات لم يكن بالغائب المنتظر التعريف به؛ بل على العكس من ذلك كله؛ فقد جاء حديثه بعبارات عمومية أقل ما توصف بها أنها أقل بكثير جداً مما عاناه المجتمع السعودي من «أهوال الصحوة» وجلاوزتها الغلاظ، وما أحدثوه من تشوهات على بياض المجتمع وفطرته ولهذا لم يكن في حديث «القرني» ما يضيف جديداً، أو يكشف مخبوءاً، على الأقل بالنسبة لي وقد تعاملت مع هذه الظاهرة بكل حذر وكتبت منذ البدايات رافضاً فكرها.
ولو ذهبت مع الذين اعتبروا أن الجديد الذي حملته الحلقة تجلى في «اعتذار» القرني للمجتمع السعودي عن أخطاء الصحوة، فإني وللحق وقفت طويلاً أمام صيغة هذا الاعتذار، الذي قدمه القرني بقوله حرفياً: «بكل صراحة وشجاعة باسم الصحوة أعتذر للمجتمع عن الأخطاء التي خالفت الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام، وخالفت الدين الوسطي المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين».
ففي هذه الصيغة تتجلى الأزمة الفكرية الحقيقية -فيما أرى-، فإن التحدث والاعتذار «باسم» جهة «ما» يعني بالضرورة أن هذه الجهة موجودة، وذات صفة اعتبارية بصورة من الصور، بحيث يتبرع أحدهم بالاعتذار -أصالة أو نيابة عن منسوبيها- لمجتمع عريض جرح في عقيدته وتشوه فكره وعلى هذا فإن اعتذار القرني يجلس في منطقة «قلقة» عندي، ولا يستقر على حالة من القناعة المطلقة بمفارقة الرجل للجماعة القديمة، رغم الإشارات التي بثها في الحلقة التي يفاد منها مفارقته لنهج هذه الفئة، واعتدال فكره، وعزمه على الانخراط في سلك الإسلام المعتدل المتسامح المنسجم مع روح الوسطية التي تتسم بها بلادنا وقيادتها الرشيدة..
إن هذا العزم من القرني الذي أبداه بانتهاجه في مقبل أيامه كان يستوجب لغة أكثر انضباطاً، وأحزم توصيفاً بـ«إنكار الصحوة» والإعلان عن مفارقتها قولاً واحداً، وليس الاعتذار باسمها، فهي لم تعد موجودة في حياتنا بعد القول الفصل من ولي العهد الأمين، في نسف فكر الصحوة من جذوره، واجتثاثه من مفاصل المجتمع السعودي بقول سموه: «نحن فقط نعود لما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب، وبكل صراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة سوف ندمرهم اليوم بإذن الله». هذا قول لا يحتمل وجود «متحدث باسم» فكرة منسوفة من الجذور، وجماعة لا وجود لها بيننا اليوم.. وتدقيقي في ما قاله القرني منسجم مع كونه كاتبا له مؤلفات عديدة، وصاحب قلم ورؤية، بما يعني بداهة أنه يصوغ أفكاره بلغة تعني ما تقول، ويجري حديثه بعبارات تكشف عن الطوايا وتنسجم مع مراده، وإلا كان من الذين يرسلون الكلام على عواهنه، و«يحطبون بليل».. وما أظنه كذلك..
ولو أحسنا الظن، وهو متوفر عندي بقدر كبير للدكتور القرني، واعتبار أنه لم يحسن «اختيار اللفظ المناسب»، في مقابل «حسن نيته» المقدرة، فإن اعتذاره أيضاً يبقى أمراً ناقصاً بالنسبة لي، ما لم يتبع ذلك عاجلاً بما يعضد توجهه الجديد، كفاء نشاطه السابق في زمن التيه والغفلة والأخطاء التي أقر بها واعترف واعتذر عنها، فالمطلوب الآن منه نشاط أكثف لـ«كنس» ما خلّفه هو وزملاؤه في «الصحوة»، فما زال بيننا من «الأغرار» من يؤمنون بأدبيات الصحوة التي زرعها القرني وأضرابه قديماً، وجيشوا لها المحاضرات وأشرطة التسجيل والكتيبات وغيرها، فذات الأدوات القديمة متوفرة ومتاحة اليوم، وزادت عليها وسائل تقنية حديثة، فكل الأمل أن يملأها القرني بنقد موضوعي لتجربة الصحوة وتعريتها بما ينسجم مع اعتذاره، ويتوافق مع توجهه الجديد، وأضم صوتي إلى صوت المبدع الفنان ناصر القصبي في مطالبته للقرني بكتاب مسطور عن هذه التجربة المريرة، يقدم فيه «نقداً مفصلاً من داخل هذه الحركة يكشف فيه بهدوء وعمق ووضوح أصولها ومع من ارتبطت وكيف نشأت وكل رموزها ونهجها وكواليسها ومخططاتها».
جملة القول؛ إن الاعتذار عن الأخطاء قيمة فاضلة ونبيلة، وهي من أخلاق الفرسان والشجعان، وصدورها من أي شخص كان؛ يستوجب القبول على أقل تقدير؛ إن لم يكن كامل الإعجاب والتقدير؛ على أنها حين صدورها من ناشطي فترة «الصحوة»، تبقى منقوصة، لسالف ما أشرنا إليه من حاجة المجتمع اليوم لأكثر من «الاعتذار»، فما زالت مظاهر التشويه الذي أحدثته الصحوة في جسد المجتمع قائمة، والبذور التي نثرتها مؤلمة، تتطلب عملاً دؤوباً من أجل التخلص والتعافي منها بشكل كامل، وهنا يتوجب أن يكون لـ«المعتذرين» و«التائبين» عن منهج الصحوة «المخالف للكتاب والسنة، وسماحة الإسلام، والدين الوسطي المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين»، دور أكبر في تعريتها، وكشف كواليسها، ونسف قواعدها؛ بذات الأقلام النشطة سابقاً، والحناجر العالية قديماً، فبهذا وحده يكون لاعتذارهم معنىً مقدر يُعلي من قيمة الشجاعة في اعتذارهم علناً..
* كاتب سعودي
ولو ذهبت مع الذين اعتبروا أن الجديد الذي حملته الحلقة تجلى في «اعتذار» القرني للمجتمع السعودي عن أخطاء الصحوة، فإني وللحق وقفت طويلاً أمام صيغة هذا الاعتذار، الذي قدمه القرني بقوله حرفياً: «بكل صراحة وشجاعة باسم الصحوة أعتذر للمجتمع عن الأخطاء التي خالفت الكتاب والسنة، وخالفت سماحة الإسلام، وخالفت الدين الوسطي المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين».
ففي هذه الصيغة تتجلى الأزمة الفكرية الحقيقية -فيما أرى-، فإن التحدث والاعتذار «باسم» جهة «ما» يعني بالضرورة أن هذه الجهة موجودة، وذات صفة اعتبارية بصورة من الصور، بحيث يتبرع أحدهم بالاعتذار -أصالة أو نيابة عن منسوبيها- لمجتمع عريض جرح في عقيدته وتشوه فكره وعلى هذا فإن اعتذار القرني يجلس في منطقة «قلقة» عندي، ولا يستقر على حالة من القناعة المطلقة بمفارقة الرجل للجماعة القديمة، رغم الإشارات التي بثها في الحلقة التي يفاد منها مفارقته لنهج هذه الفئة، واعتدال فكره، وعزمه على الانخراط في سلك الإسلام المعتدل المتسامح المنسجم مع روح الوسطية التي تتسم بها بلادنا وقيادتها الرشيدة..
إن هذا العزم من القرني الذي أبداه بانتهاجه في مقبل أيامه كان يستوجب لغة أكثر انضباطاً، وأحزم توصيفاً بـ«إنكار الصحوة» والإعلان عن مفارقتها قولاً واحداً، وليس الاعتذار باسمها، فهي لم تعد موجودة في حياتنا بعد القول الفصل من ولي العهد الأمين، في نسف فكر الصحوة من جذوره، واجتثاثه من مفاصل المجتمع السعودي بقول سموه: «نحن فقط نعود لما كنا عليه، الإسلام الوسطي المعتدل المنفتح على العالم وعلى جميع الأديان وعلى جميع التقاليد والشعوب، وبكل صراحة لن نضيع 30 سنة من حياتنا في التعامل مع أي أفكار متطرفة سوف ندمرهم اليوم بإذن الله». هذا قول لا يحتمل وجود «متحدث باسم» فكرة منسوفة من الجذور، وجماعة لا وجود لها بيننا اليوم.. وتدقيقي في ما قاله القرني منسجم مع كونه كاتبا له مؤلفات عديدة، وصاحب قلم ورؤية، بما يعني بداهة أنه يصوغ أفكاره بلغة تعني ما تقول، ويجري حديثه بعبارات تكشف عن الطوايا وتنسجم مع مراده، وإلا كان من الذين يرسلون الكلام على عواهنه، و«يحطبون بليل».. وما أظنه كذلك..
ولو أحسنا الظن، وهو متوفر عندي بقدر كبير للدكتور القرني، واعتبار أنه لم يحسن «اختيار اللفظ المناسب»، في مقابل «حسن نيته» المقدرة، فإن اعتذاره أيضاً يبقى أمراً ناقصاً بالنسبة لي، ما لم يتبع ذلك عاجلاً بما يعضد توجهه الجديد، كفاء نشاطه السابق في زمن التيه والغفلة والأخطاء التي أقر بها واعترف واعتذر عنها، فالمطلوب الآن منه نشاط أكثف لـ«كنس» ما خلّفه هو وزملاؤه في «الصحوة»، فما زال بيننا من «الأغرار» من يؤمنون بأدبيات الصحوة التي زرعها القرني وأضرابه قديماً، وجيشوا لها المحاضرات وأشرطة التسجيل والكتيبات وغيرها، فذات الأدوات القديمة متوفرة ومتاحة اليوم، وزادت عليها وسائل تقنية حديثة، فكل الأمل أن يملأها القرني بنقد موضوعي لتجربة الصحوة وتعريتها بما ينسجم مع اعتذاره، ويتوافق مع توجهه الجديد، وأضم صوتي إلى صوت المبدع الفنان ناصر القصبي في مطالبته للقرني بكتاب مسطور عن هذه التجربة المريرة، يقدم فيه «نقداً مفصلاً من داخل هذه الحركة يكشف فيه بهدوء وعمق ووضوح أصولها ومع من ارتبطت وكيف نشأت وكل رموزها ونهجها وكواليسها ومخططاتها».
جملة القول؛ إن الاعتذار عن الأخطاء قيمة فاضلة ونبيلة، وهي من أخلاق الفرسان والشجعان، وصدورها من أي شخص كان؛ يستوجب القبول على أقل تقدير؛ إن لم يكن كامل الإعجاب والتقدير؛ على أنها حين صدورها من ناشطي فترة «الصحوة»، تبقى منقوصة، لسالف ما أشرنا إليه من حاجة المجتمع اليوم لأكثر من «الاعتذار»، فما زالت مظاهر التشويه الذي أحدثته الصحوة في جسد المجتمع قائمة، والبذور التي نثرتها مؤلمة، تتطلب عملاً دؤوباً من أجل التخلص والتعافي منها بشكل كامل، وهنا يتوجب أن يكون لـ«المعتذرين» و«التائبين» عن منهج الصحوة «المخالف للكتاب والسنة، وسماحة الإسلام، والدين الوسطي المعتدل الذي نزل رحمة للعالمين»، دور أكبر في تعريتها، وكشف كواليسها، ونسف قواعدها؛ بذات الأقلام النشطة سابقاً، والحناجر العالية قديماً، فبهذا وحده يكون لاعتذارهم معنىً مقدر يُعلي من قيمة الشجاعة في اعتذارهم علناً..
* كاتب سعودي